عطور في الذاكرة

Hasan Almossa
10 min readJul 18, 2021

(الحبق لا ينتظر)

كان نهاراً طويلاً، وشاقاً من نهارات نيسان، مئات الأسر تدفقت نحونا هاربة من الموت في مناطق الاشتباكات، تركوا كلّ شيء بيوتهم، أراضيهم قبور أهليهم، شهداءهم، وفروا ناجين بأرواحهم، وصلوا إلى نقطة التجمع الحدودية حالمين بسماء آمنة لا تمطر موتاً، وأرضا لا يعتقلون فيها، مجهدين، منهكين، بعد أن رأوا الموت بأم أعينهم، وصلوا لا يحملون سوى ذكرياتهم الأليمة، والغني منهم من استطاع أن يخرج بكامل أولاده وحقيبة ثياب، مدنيون عزل لم يرحمهم أحد، خرجوا من بين نيران النظام والمعارضة، من بين صواريخ الفيل وجرات الغاز، والبراميل المتفجرة التي تلقيها الطائرات، حتى شمس نيسان لم ترحمهم ولم ترحمنا في ذلك اليوم، كنا نتصبب عرقاً، ونحن نستقبلهم ونوزع لهم خيماً وفرشاً بدل بيوتهم التي دمرت، كنا نعمل بآخر ما بقي لدينا من قوة؛ بعد عناء أيام متواصلة استفحل فيها الصراع وسقطت أكثر من قرية في سهل الغاب بأيدي الثوار.

سمعت رجلاً يقول غاضباً:

- ماذا استفدنا من هذا التحرير؟ ما داموا غير قادرين على حمايتنا يحررون البلد من هنا، وتأينا الطيارات لتدمرها على رؤوسنا من هناك، ماذا استفدنا غير أننا تركنا كل شيء وهاجرنا؟…. نظام لا يخاف الله يا عمي يحرق الأخضر واليابس.

ورغم العدد الكبير لم يأت المساء إلا وكنا قد قدمنا لهم ما يحتاجون من طعام وشراب وخيام.

كنت أشعر بالتعب الشديد حين أويت إلى إحدى الخيام الفارغة، واستلقيت على ظهري تنهدت من أعماقي، شعرت براحة كبيرة تسري في عروقي، لقد اعتدت هذا الشعور كنت كلما قدمت خدمات أكثر لأولئك المهجرين شعرت براحة أكبر رغم تعبي الجسدي أغمضت عيني، ومر شريط النهار أمامي، ونسمات محملة بروائح الصيف تداعب عضلاتي المرهقة.

استعرضت عيون الأطفال المرهقة، وبكاء الرضع الجائعين، هلع الأمهات، ودموع الثكالى، والانكسار في عيون الرجال… رحت استحضر نتف الحكايا التي سمعتها خلال النهار، الكل كان يحكي، ولكن لا أحد يكمل حكايته، أسرة هنا اعتقل معيلها الوحيد الذي كان ينفق عليها وأخرى خرج كبيرها إلى الحرب ولم يعد، أسرة هناك تبكي ولدها الذي دفنوه في حديقة المنزل؛ لأنهم لم يجرؤوا على الخروج به الى المقبرة، حتى المقابر لم تسلم من القصف، وخاصة لحظات تجمع المشيعين.

ليست الأسر التي وصلت إلى الحدود بكامل أفرادها قليلة فحسب، بل وقليلون هم الذين وصلوا إلى الحدود بكامل عقولهم، أو أعضائهم، فهذا فقد عينه في شظية، وآخر فقد ساقه حين وقع برميل قرب داره، وآخر انفجرت قنبلة بيده وبترتها من ساعدها، وتلك فتاة في شرخ شبابها شوه وجهها الحريق، الذي أشعلته قذيفة في منزلها، وترك لها ملامح مرعبة… حين كنت أرى تلك المشاهد كنت اشعر بنعمة قلما يدركها الناس العاديون، وهي نعمة أن أكون حتى الآن كما خلقت، أحتفظ بملامح وجهي، وكامل أعضائي أحرك يدي ورجلي في الوقت الذي أريد، أستيقظ صباحا، وأجد نفسي أتنفس بارتياح ما زلت استطيع أن أرى بكامل بصري كلّ ما يحيط بي.. هذه النعمة لا يدركها الناس الذين لم يعيشوا الحروب، ولن يشعروا بها إلا إذا عايشوا أولئك الفارين، الناجين ببعض أعضائهم من ويلاتها… وأنا منهم فقد نجوت من أكثر من موت محقق.

لا أدري كيف ومتى نمت تلك الليلة، لكني لم أكد أغفو حتى رنّ هاتفي الجوال ليخبرني صديقنا الطبيب الذي يعمل على الحدود أن دفعة جديدة من المهجرين قد وصلت لتوها من سهل الغاب ومناطق مختلفة، وعليّ أن أتصل بالأصدقاء المتطوعين معنا لنستقبلهم، ونؤمن لهم ما يلزمهم.. كنت نائماً بكامل ثيابي، وقبل أن أنفض آثار النوم عني كنت متجها إلى ساحة المخيم، وأنا أخبر الأصدقاء أن يلحقوا بي، وبدورهم لم يتأخروا.

لولا تلك المرأة التي كانت تشبه أمي هناك في الظلمة لما كان هناك جديد اكتبه في تلك الليلة… الحكايا ذات الحكايا، والوجوه المحملة بالحسرة، وكذلك كانت العيون المكتظة بالحزن، والأطفال الجياع المتمسكين بتلابيب أمهاتهم، والرضع الذين يصرخون وهم ينبشون صدور أمهاتهم بحثاً عن أثدائهن… ولولا تلك المرأة التي كانت تقف بعيدا متنحية عن الجمع لما كان هناك جديد.

رأيتها هناك في وشاح الظلمة وقفتها وقفة أمي… قامتها… زِيّها…

ارتجف قلبي، وأنا اقترب منها وأنا أتساءل هل قصف بيت أهلي، ووصلوا إلى هنا؟ أين أبي وأخوتي؟ لحظات كاد قلبي أن يقع قبل أن أتبين ملامحها… لم تكن أمي بل أم أحمد…

كانت تحتضن صرة صغيرة ظننتها طفلاً في البداية، وعلى ضوء القمر رأيته كيساً أسود، ونبتة خضراء تتناوق بأوراقها الناعمة خارجة منه نحو صدرها.

ودون أدري وجدت نفسي أناديها بـ (يا أمي…)

حين تعمل مع ضحايا الحرب يجب أن تكون حذراً في كل كلمة تستعملها معهم، فلربما ترمي كلمة تقتل بها روحاً لم يستطع برميل أن يقتلها قبل وصوله إليك ومع هذا بقيت شهوراً أخطئُ في كثير من ألفاظي، ويومها أخطأت أيضاً حين قلت لها:

- تعالي يا أمي لماذا تقفين هنا وحدك؟ همست لي وكأنها تتكلم من عالم آخر وتخاطب شخصاً آخر .

- أمي؟ أي يا ماما وينك يا ماما؟ ثم استدركت موجهة كلامها إليّ:

- أي يا ماما أنا ما عندي أولاد.

- وشدت إصيص الحبق إلى صدرها قلت دون تردد:

- كلنا أولادك يا أمي تعالي معي لا شك أنك متعبة، تعالي لأدلك على مكانا ترتاحين فيه كدت أسألها: هل معك أحد من أسرتك؟ ثم سحبت سؤالي وقلت:

- معك أغراض؟

- لا

لم يكن معها شيء سوى إصيص الحبق مشت ورائي صامتة، لم اسألها عن أي شيء، هؤلاء الناس لو أرادوا الكلام لا يحتاجون إلى أسئلة، وإذا صمتوا فأسئلة العالم لا تكسر صمتهم…. قدتها إلى خيمة فارغة طلبت منها أن تستريح ريثما أعود إليها ببعض الطعام

رفضت في البداية أن تشغل خيمة بمفردها، وهي ترى الناس ما زالوا في العراء، قالت: أنا لوحدي الأطفال أحق مني.

ولم تقبل إلا بعد أن أقنعتها أن الجميع سيجدون مأوى، وكنت في داخلي أعرف أن الخيم قد لا تكفي تلك الأعداد الغفيرة. وبعض الناس كانوا يرفضون الاستقرار في خيمة، إنهم يحلمون بالعودة سريعاً إلى بيوتهم وكأن الخيمة ستطيل من غربتهم كما يتوهمون.

لم أتأخر كثيراً، لكني حين عدت إليها وجدتها غارقة في نومها، وقد لفت إلى صدرها إصيص الحبق بشكل غريب، كما تلف أم رضيعها وثمة غصن منه كان بمحاذاة أنفها وقفت حائراً أي حكاية وراء هذه المرأة وأصيص الحبق هذا، كدت أن أغادر الخيمة حين انتفضت جفلة وجلست وهي تقول (بسم الله الرحمن الرحيم… مين هون؟) وراحت تحدق بي وكأنها تحاول أن تتذكر أين هي، وحين رأت الحقيبة المعلقة على كتفي أشارت إليها سائلة دون مقدمات:

- أشو معك في الحقيبة

- أغراضي دفتر وأقلام وكاميرا… قاطعتني:

- أنت صحفي

- لا يا أمي أنا دللتك على الخيمة قبل قليل، أنا هنا أعمل في خدمة الناس الذين يحتاجون مساعدة،

- وليش معك كاميرا؟ أنت صحفي، ابني كان يحب أن يكون صحفي…

لم أسألها أين هو؟ لأني عرفت الجواب حين نقلت عينيها إلى الحبقة وصمتت طويلاً..

قلت لها ارتاحي يا أمي، أنت متعبة، هل يلزمك شيء قبل أن أذهب ودون تردد قالت:

- عندك ماء؟

- دقائق ويكون عندك…

خرجت وكل ظني أنها كانت عطشة، درت أكثر من خيمة وأتيتها بقنينة ماء قدمتها لها، وجلست بجوارها… أمام عيني المستغربتين أزاحت الكيس عن ساق الحبقة وداعبت أوراقها الذابلة وبدل أن تشرب راحت تسكب الماء في الإصيص وملأت المكان رائحة حبق وراح الدمع يتدفق من عينيها.

أم احمد لم تكن بحاجة إلى أسئلة لتروي لي حكايتها في اليوم التالي هي التي قالت لي: تعال يابني سأحكي لك حكايتي

حكاية أم أحمد حكاية مجبولة بالدم والدمع ورائحة الحبق، حكاية أربعة شهداء قد يكتب التاريخ واحداً لا غير منهم، ولن يفطن أحد إلى الثلاثة الباقين.

قالت:

من أكثر من عشرين عاماً تزوجنا… أنا وراضي لم يكن اسمه أبو أحمد حينها، تزوجنا بعد حكاية حب حكى بها أهل سهل الغاب… أخذني غصباً عن الجميع لأنّ أهلي وأهله ما كانوا موافقين، فأنا من ملة وهو من ملة أخرى، همست لي وهي تقترب من أذني وعيناها خائفتان سامع لما ستقول: أنا سنيّة وهو علوي…

ونظرت في عيني لتعرف صدى كلامها في نفسي، لم يصدمني اعترافها، كثيرة هي الحالات التي تشبه حالتها، كنا نعيش متجاورين متحابين شركاء في المأكل والمشرب والسوق والأرض، وقلة هم الذين كانوا يقفون عند علاقة الزواج… الحرب هي التي شقت الشمل. قادتها هم من شقوا هذا الجرح المندمل ليجري من جديد وانتشلني صوتها من شرودي وهي تتابع:

انتظرني عشر سنوات وأجبرنا الجميع على الموافقة… قال لي سننجب عشيرة من الأولاد وكنت أحب الأولاد أكثر، ولكن الله لم يأذن لا في السنة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، لم نترك طبيبا ولا شيخاً ولا ولياً، ولا مزاراً إلا وزرناه وقدمنا له النذور، والدعوات والتضرعات، خمس سنوات مرت… كان أبو أحمد الله يرحم روحو يحب الأزهار والورود ويهتم بها كما يهتم الأب بأطفاله، وكرمى لعينيه وجدت نفسي أعشقها، وكانت أرض دارنا تقارب الدونم، كلها زرعتها له أزهارا من كلّ الأنواع، وسورتها بالزنبق وسقفتها بعرائش الياسمين، كنا نربي أزهارنا ونهتم بها وندللها ونشمها بل ونقبلها، وكأنها أطفال من صلبنا، وكل وردة لها اسم وكم كنت أحدثها وتحدثني، أصبحت دارنا جنة مليئة بكل أنواع الزهور، الأزهار لها روح وتفهم على الإنسان.

انشغلنا بها عن الولد فترة… وتنهدت أم أحمد وصمتت طويلاً دون أن أجرؤ على مقاطعتها، وتابعت متحسرة:

ولكن لا شيء يعوض عن الولد، وذكروا لي شيخاً في جبل بعيد لا تصل إليه إلا الطيور الطائرة، ودون أن أخبر أبو أحمد ذهبت إليه وكان الله قد وضع سرنا عنده أخذت له ذبيحة كما قالوا لي وما مر شهران ألا وكنت حاملا بعد ست سنوات من زواجي، وولد أحمد…

وصمتت من جديد وحين نظرت إلى وجهها كانت دمعتان كبيرتان تحملان حرقة جارفة، تهبطان على خديها اللتين بقعتهما الشموس الحارقة عبر مسيرة عمرها، وتنهدت متابعة:

كان أجمل من كل الأزهار في دارنا، وكانت كلها تغار منه حتى أن بعضها ذبل ومات من غيرته، هكذا الأولاد يغارون من بعضهم… حين بدأت المظاهرات كان حمودي في العاشرة من العمر، وحين خرج أبوه إلى عمله آخر مرة، لم يكن قد تجاوز الحادية عشرة، قبّله أبوه وقال له “دير بالك على أمك أنت الرجل من بعدي” وكأنه كان يعرف أنه لن يعود… وإلى اليوم لم يعد ولا نعرف عنه شيئاً قالوا انه اختطف من عصابة، وقالوا اعتقل وقالوا مات، لا أعرف… سنة وأحمد يسألني عن أبيه وأنا أقول له سيرجع يا ولدي سيرجع…

مع غياب أبو أحمد بدأ كلّ شيء يذبل في حياتنا، وأول ما ذبل ابتسامة أحمد، وضحكاته التي كانت تملأ الدار فرحاً.. ثم بدأت الجنينة، راحت أزهارنا تلوي أعناقها، وكأنها أحست باليتم، في البداية ظننت أن قلة الماء هي السبب، وخاصة حين بدأت المياه بالانقطاع بعد تدمير خطوط الري ولكني كنت اشتري الماء، وأسقيها لكن هذا لم يجد نفعاً، كلّ صباح كنت أقرا في ألوانها التي تبهت يوماً بعد يوم سؤالاً ملحاً مكرراً: أين أبو احمد؟ وخاصة الحبق كان الحبق من اختصاصه الله يرحم روحو إذا مات وإذا عايش الله يرجعو بسلامة.

وفي أحد الأيام عاد احمد إلى يحمل كيساً اسود وقال:

- احزري ماذا اشتريت لك يا أحلى ماما؟

قلت له وأنا استكشف شكل الكيس:

- ماذا؟

- شيء يحبه بابا كثيراً وسيفرح به حين يعود وأنت تحبينه أيضا… احزري ما هو؟

ومن الرائحة المنبعثة من داخل الكيس شممت رائحة “أبو أحمد”

وقلت له مازحة:

- عجزت… فتح الكيس وكانت هذه…

ومدت يدها إلى الحبقة وقربت وجهها منها، ظننت أنها ستشمها ولكنها راحت تقبلها، ودموع غزيرة تتساقط مع شهقاتها المخنوقة راحت تنهمر على أوراقها الناعمة.

تفاصيل حكاية أم أحمد كانت تحفر في قلبي، تشتعل في دمي الذي أحسه بخاراً يتقاطر من عيني، ولكن بقي السؤال يشدني لحكايتها، أين ولدها أحمد؟

حدقت في عيني، وكأنها قرأت ما يجول في خاطري.

- كان أحمد بلا أرجل لو كانت له أرجل لركض من تحت البرميل ولكن أنا السبب.. أنا السبب.

جمدت جملتها الأخيرة لساني، أحمد بلا أرجل؟… أنا السبب؟؟؟ ماذا تعني؟

وبعد جهد استجمعت قدرتها على الكلام وتابعت:

- حين سقط البرميل بعد يومين من شراء الحبقة، على الجنينة في دارنا، قطع كل الأزهار، كما قطع رجلي أحمد، مما فوق الركبتين، وزرع جسده بالشظايا…

ترك البرميل لي نصف ولد، حمدت الله ألف مرة، أنه ترك لي نصفه لأن أولاد الجيران الذين كانوا يلعبون معه في الجنينة لم تترك منهم الشظايا ما يكشف عن ملامح الصبي من البنت، درت به كل المشافي الميدانية، وقدراتها محدودة، شكّلها بعض المحسنين ليلجأ إليها الناس البسطاء، والذين لا يجرؤون على الذهاب إلى مناطق النظام خشية الاعتقال، إلى أن عافاه الله، وعلى كرسي متحرك راح يتنقل في أرجاء الدار التي كانت تئن حنيناً إلى وقع خطواته التي لم تكن تهدأ.

قلت في نفسي الحمد لله انه لم يمت، هو قد نجا من البرميل فأين هو؟

ومرة أخرى وكأنها تقرأ أفكاري تلك المرأة الغريبة، ثبتت عينيها الدامعتين في وجهي وقالت: في المرة الأولى نجا لأنه كان يملك ساقين، وهرب أمتاراً عن البرميل، ولكن في المرة الثانية كان عاجزاً عن الهرب، لم يستطع الحركة وهو يراه نازلاً من الحوامّة فوقه، كنت في السوق أنا السبب، لو كنت هناك لأخذته، وهربت، كنت في السوق، وحين رجعت لم أجد منه قطعة أستطيع أن أودعه منها… وانخرطت في نحيب مرير، وأكثر من امرأة كانت تمر أمام الخيمة دخلت علينا محاولات تهدئتها دون جدوى، وحين راحت تنتفض أمامي كطائر ذبيح لم يعد أمامي إلا أن استدعي لها صديقي طبيب المعبر الحدودي؛ ليحقنها بإبرة مهدئة…

رأيت أم أحمد بعد ذلك اليوم أكثر من مرة كانت تحضنني وتقبلني بحرارة، أم وكنت أشم رائحة أمي، ورائحة الحبق تفوح من صدرها،

شاهدتها مرة قرب صهريج لتوزيع الماء على النازحين، كانت تحمل إناء صغيراً، أصغر من المتوقع سألتها مازحاً:

- أليس عندك أكبر منه. قالت مبتسمة:

- يوجد ولكن هذا يكفي لسقي الحبقة أنها عطشانة، ولو كان أكبر سأنتظر في الطابور طويلاً، والحبق لا ينتظر.

قلت لها:

- اشربي أنت، ولك عليّ أن أوفر لك ماء الحبقة كل يوم.. وأوصيت من يتكفل لها بماء الحبقة يومياً إذا ما شغلت عنها.

ومرت شهور لم أرها، كانت قد انتقلت كما علمت إلى مخيم جديد، تشكل نتيجة تضاعف النازحين، يبعد قليلاً عن نقطة استقبال اللاجئين التي شكلناها، ورغم مشاغلنا الكثيرة قصدت ذلك المخيم باحثاً عنها.

عرفت من الإدارة أنها تسكن مع بعض أقاربها الذين كانوا في ذلك المخيم، وحين وصلت خيمتها قالوا إنها مريضة، قلت لهم أن يخبروها باسمي، وما إن دخلوا حتى فوجئت بها تركض نحوي من الداخل، وشدتني من شعري معنفةً إياي، معاتبة على تقصيري في زيارتها، بينما كان أقاربها يحدقون بالمشهد مستغربين وبعيون مليئة بالإشفاق تابعوها، وخاصة حين كانت تناديني باسم أحمد بدل اسمي، قادتني للداخل، والغريب الذي لم أفهمه أنها كانت تبتسم، وابتسامة كبيرة ومريرة وهي تقول:

- مالك خبر؟ مالك خبر؟ تعال لفرجيك وشدتني من يدي

وأشارت إلى زاوية الخيمة وقالت أنظر شوف… راحت…

في الزاوية قرب فراش ووسادة رأيتها، كانت في إصيصها الأسود تمد فروعها الناعمة، لكنها عارية من الأوراق تماماً بل كانت يابسة أيضا. وتابعت:

- شفت راحت الحبقة ماتت، وتركتني… كلهم استشهدوا وتركوني… أحمد راح لعند أبوه… والحبقة لحقتهم وبقيت أنا…

لم أكن لا أنا ولا الحاضرون نملك لغة نرد بها عليها إلا لغة الدموع…

كتبت في دفتري:

ما أكثر الشهداء الذين يسقطون من كتب التاريخ! من سيفطن إلى حبقة في حرب، استشهدت عطشاً، واستشهد بموتها قلب أم كانت تتنفس من رائحتها أرواح الراحلين.

قصة من كتاب ولدت مرت

--

--

Hasan Almossa

Syrian - writer & Founder of Kids Paradise nonprofits - Author of I Was Born Twice : twitter x @hasanalmossa